“الوزاني .. من “احتجاجات اللطيف” إلى زعامة “الشورى والاستقلال
“الوزاني .. من “احتجاجات اللطيف” إلى زعامة “الشورى والاستقلال
ربما لم يكن محمد بلحسن الوزاني منظرا سياسيا فقط، بل أيضا مؤطرا ومنظما سياسيا. وقد بدا ذلك في مشاركته المبكرة في احتجاجات ما سمي بـ”اللطيف” التي تعرض فيها للجلد بفاس، على غرار ما تعرض له عدد من الزعماء الوطنيين. كما بدا ذلك في مساهمته في تأسيس كتلة العمل الوطني، التي انسحب منها بعدما أبعد عن رئاستها التي أسندت إلى علال الفاسي؛ مما دفعه إلى تأسيس الحركة القومية في سنة 1937
.في هذا المقال، يعمل الدكتور محمد شقير على استعراض الكيفية التي تمكن بها الراحل من تكريس الهوية السياسية لحزب الشورى والاستقلال
وهذا نص المقال
يمكن القول بأن الزعيم محمد بلحسن الوزاني قد تفرد بمزايا خاصة في تأسيس وتأطير وتنظيم العمل السياسي؛ فمحمد بلحسن الوزاني لم يكن فقط منظرا سياسيا بل أيضا مؤطرا ومنظما سياسيا، حيث تجلى ذلك في مشاركته المبكرة في احتجاجات ما سمي بـ”اللطيف” التي تعرض فيها للجلد بفاس، على غرار ما تعرض له كل من علال الفاسي وغيره من الزعماء الوطنيين الذين أطروا هذه التظاهرات بمعناها السياسي لأول مرة في التاريخ السياسي الحديث للمغرب. كما تجلى ذلك في مساهمته في تأسيس كتلة العمل الوطني، التي انسحب منها بعدما أبعد عن رئاستها التي أسندت إلى علال الفاسي؛ مما دفعه إلى تأسيس الحركة القومية في سنة 1937، التي لم يتمكن من هيكلتها بعدما نفي إلى جنوب المغرب بعد أحداث بوفكران التي استغلتها سلطات الحماية الفرنسية لحظر كل تنظيم سياسي بالمغرب
ولعل مما ساعد الوزاني على امتلاك هذه الخصال التنظيمية هو تميزه عن زعماء الحركة الوطنية؛ كالزعيم علال الفاسي الذي تخرج من جامعة القرويين بفاس، أو عبد الله ابراهيم والفقيه محمد البصري اللذين تخرجا من جامعة ابن يوسف بمراكش، بدراسته للعلوم السياسية في مهدها الأصلي بفرنسا بعدما التحق بالمدرسة الحرة للعلوم السياسية، حيث كان أول مغربي حصل على الإجازة في هذه العلوم
بالإضافة إلى ذلك، استغل الوزاني وجوده بالديار الفرنسية، فدرس الصحافة والتاريخ. وبالتالي، فقد زاوج الوزاني بين القلم والخطبة، حيث كان يدبج المقالات الصحافية للسجال السياسي في حين كان يلجأ إلى الخطب للتعبئة والحشد والتوجيه السياسي. وبهذا الصدد، ألقى الزعيم العديد من الخطب سواء في منابر دولية واقليمية، أو في تجمعات حزبية حيث تم تجميعها في مؤلف من جزأين تناول الأول الخطب التي ألقاها الزعيم في الفترة ما بين 1933-1957، والثاني الخطب التي ألقيت في الفترة ما بين 1958 و1978
الوزاني والتنظيم الهيكلي للحزب
شكل الخطاب الذي ألقاه محمد بلحسن الوزاني في مؤتمر الحزب بفاس بتاريخ 19/20/21 شتنبر1959 لبنة أساسية في تنظيم حزب الشورى والاستقلال نظرا لاعتبارات عديدة من أهمها
ـ الاعتبار الأول كون هذا الخطاب يتزامن مع مرحلة حساسة في تاريخ المغرب السياسي والذي اتسمت بالصراع حول السلطة بعيد الاستقلال، سواء بين القصر وحزب الاستقلال أو بين هذا الحزب وباقي الأحزاب السياسية بالمغرب وعلى رأسها حزب الشورى والاستقلال الذي أسسه محمد بلحسن الوزاني
ـ الاعتبار الثاني كون هذا الخطاب يجسد مرحلة ولادة حزب الشورى والاستقلال وما رافق ذلك من خطوات وإجراءات لهيكلة الحزب وتقعيد تنظيماته على المستوى المركزي أو الجهوي أو المحلي والتي لعب فيها الوزاني دورا أساسيا وحاسما في بلورتها وتوجيه مساراتها. وهذا ما ألمع إليه الوزاني في فقرة وردت في هذا الخطاب، جاء فيها: “إن مهمتنا اليوم هي تنظيم الحزب عامة ومؤتمره الوطني خاصة، ومعنى هذا أننا سنفتح مرحلة جديدة حاسمة في تاريخ الحزب وحياته في الحاضر والمستقبل”
ـ الاعتبار الثالث كون هذا الخطاب يلخص مجمل الأفكار السياسية التي كان يعتنقها هذا الزعيم كإيمانه بالقومية العربية كعقيدة سياسية، وبالديمقراطية والشورى كنظام للحكم، والاشتراكية التقدمية كنظام لتوزيع الثروة الوطنية والتخفيف من الفوارق الاجتماعية، والتي حاول أن يحدد من خلالها الهوية السياسية للحزب الذي كان يتزعمه
وبالتالي، أكد الوزاني في هذا الخطاب على ضرورة هيكلة حزب الشورى والاستقلال على أسس تنظيمية قوية تقوم بالأساس على مجموعة من المرتكزات والتي من أهمها
ـ التمثيلية القاعدية للحزب من خلال الحرص على تمثيلية الفروع في المؤتمر الوطني للحزب
ـ تنظيم القيادة في الحزب على أساس التجديد وتوزيع العمل والمسؤولية بين الهيئات القيادية للحزب من لجان وغيرها
ـ انتخاب المجلس الوطني كهيئة تشريعية للحزب من طرف فعاليات مؤتمر الحزب
ـ النقد الذاتي كآلية لتصريف الخلافات داخل الحزب، شريطة أن يقوم على التجرد، والنزاهة، والصفاء والآداب؛ “فاستعمال أساليب النقد، والنقد الذاتي، يقول الوزاني، يعد من مميزات الأحزاب محكمة النظام، قوية البنيان فهو دليل قوتها ووحدتها ووسيلة رقيها ونموها
ـ الديمقراطية الداخلية التي ينبغي أن تقوم على حرية الرأي والتعبير عنه داخل الحزب، وحرية المناقشة، وانتخاب هيئات التسيير والقيادة، والمراقبة والمحاسبة، والمساواة التامة بين الأعضاء والمسؤولية عن الأعمال وتطبيق القرارات؛ الشيء الذي لا يتنافى مع واجب التضامن والاتحاد بين الأعضاء، خصوصا بين الأكثرية والأقلية في تنفيذ القرارات بعد المناقشة
ـ التشبث بأخلاقيات الحزب المتمثلة في الدفاع المستميت عن التنظيم والتضحية من أجل مبادئه وأهدافه السياسية، وسيادة الثقة بين أعضائه، واليقظة والحذر من كل العناصر المندسة التي تسعى إلى تشويه سمعة الحزب
الوزاني والهوية السياسية للحزب
أكد الوزاني، من خلال هذا الخطاب، على ضرورة أن يكون لحزب الشورى والاستقلال مذهب سياسي باعتباره “العنصر الأول من عناصر القوة في كل حزب، وأعني به المذهب السياسي أو فلسفة الحزب”. فعلى الرغم من أن الحزب “كان وما فتئ حزب الأفكار النيرة، والاتجاهات الواضحة، والمواقف الجريئة… التي تنشر وتنتصر كل يوم في الشعب، بل فرضت نفسها اليوم على المسؤولين الذين طالما حاربوها بكل وسيلة طمعا في القضاء عليها …” فإن هذا لا يمنع في نظر منظر الحزب وزعيمه من “إعادة النظر في مذهب الحزب وفلسفته للتقوية، والتجديد، والتوضيح، والتحديد
وبالتالي، فقد حدد الوزاني ماهية الحزب وهويته السياسية في ثلاثة مرتكزات أساسية
أولا- القومية العربية المتحررة كعقيدة سياسية للحزب
حدد الوزاني مفهومه للقومية في زمن القوميات بأنه يختلف عن القومية الزائفة التي تقوم على التعصب العرقي أو الديني أو اللغوي والتي تخرج بأصحابها كما يقول مفكرنا “عن حدود العقل، والحكمة، والإنسانية، إذ تقوم على العنصرية، والعصبية، والشعوبية والعداوة للغير”، وكانت وراء الكثير من الحروب المدمرة، وعداوات الدول وعدم تفاهم الأمم، ويفضل بدلها القومية الرشيدة التي تقوم على الفضيلة، والوطنية، والإنسانية، والعقل، والحكمة. وهكذا، تشكل القومية في نظر الوزاني بوصلة سياسية في توجيه الحركة الوطنية المغربية في “اتجاه الحرية والديمقراطية، والتقدمية”، وكذا في محاربة الاستعمار و”حمايته المزورة الباطلة”، إذ يعتبر الوزاني بأن القومية الرشيدة لا تعتبر صالحة فقط لمواجهة المستعمر، بل أيضا لإرساء استقلال المغرب على أسس متينة تقوم على رفع المستويين المادي والمعنوي للشعب ونشر قيم الإخاء والتضامن وثقافة الصالح العام. كما يعتبر الوزاني بأن القومية المتبناة من طرف الحزب ينبغي أن تتوسع لتشمل مشمول الوطن العربي؛ فالقومية العربية ينبغي أن تكون آلية للتحرر والتحرير، حيث “ترمي القومية العربية المتحررة إلى تحرير جميع بلاد العروبة سياسيا واجتماعيا واقتصاديا ودوليا، فكذلك ترمي إلى توحيد الأمة العربية، فهي لا تعترف بالتجزئة، والانفصال، والانعزال”. كما أن مفهوم القومية العربية المتحررة لا يعني انغلاق الأمة العربية على نفسها؛ بل يعني انفتاحها على مجموع دول العالم، في علاقة تقوم على الصداقة والتعاون، وعدم الانحياز لصالح كتلة ضد كتلة منافسة في زمن التكتلات والحرب الباردة والصراع بين دول المعسكر الغربي ودول المعسكر الشرقي. وبالتالي، فقد شكلت هذه القومية في نظر الوزاني بوصلة سياسية للتعامل الخارجي والسياسة الخارجية، سواء في الانضمام إلى حلف بغداد؛ “فباسم هذه القومية العربية المتحررة، يقول الوزاني- حارب حزبنا حلف بغداد الذي مزق وحدة العرب، وعرقل سير الجامعة العربية وأوجد الخلاف والتطاحن بين الدول العربية، وربط بعضها بركاب الاستعمار والحرب، وقد حاربنا ذلك الحلف المشؤوم مع العرب ولصالح العرب، كما حاربناه وقتما كان المغرب وشيك الانضمام إليه”، أو في تبني سياسة عدم الانحياز “باسم القومية العربية عارضنا سياسة التبعية والانحياز إلى الكتلة الغربية الاستعمارية، وباسم القومية العربية أيضا ناضلنا في سبيل انضمام المغرب إلى جامعة الدول العربية غير عابئين بالتعلات والاعذار الرسمية الواهية”، أو مساندة حركات التحرر العربي المطالبة بالاستقلال واستكمال السيادة ” وأخيرا باسم القومية العربية طالبنا الحكومة المغربية بالتعجيل بالاعتراف بالجمهورية العربية المتحدة، وبحكومة الجزائر المجاهدة
ثانيا-الديمقراطية المثلى كهدف سياسي للحزب
اعتبر الوزاني أن العنصر الثاني المكون لهوية الحزب هو العمل على إرساء الديمقراطية بالبلاد نظرا للاعتبارات التالية
ـ أولهما لأن المغرب بلد ترسخت فيه النزعة الديمقراطية منذ القديم؛ فهو “ديمقراطي بالطبع والفطرة”، ومن ثمة تسميته الأمازيغية بلد الأحرار
ـ ثانيهما أن الحزب منذ تأسيسه “كحركة قومية مغربية وهو قائم على الشورى كأحد مبادئه الأساسية، وعلى محاربة الاستبداد
ـ ثالتهما يتمثل في التضحيات الكبرى التي قدمها قياديو ونشطاء الحزب من أجل تحقيق الديمقراطية
ـ رابعها وهو أن الديمقراطية تجد مرجعيتها في الشورى التي دعا إليها دستور الإسلام؛ وهو القرآن الذي نص في آية من آياته وأمرهم شورى بينهم، كما أن التجربة السياسية في عهد ثاني خليفة للرسول استنكرت استعباد الناس الذين ولدتهم أمهاتهم أحرارا
وبالتالي، فالديمقراطية والشورى هما صنوان سياسيان في نظر الوزاني حيث يقومان على “مبدأ سيادة الأمة والحرية، والمساواة بين الجميع أمام القانون، والعدالة والإخاء، والتعاون، والانتخاب، وتكافؤ الفرص في معترك الحياة”، إذ يرى الوزاني بانه ما دام “أن الشورى والديمقراطية ترتكزان على الحكم الصالح، وسيادة القانون الحق، والعدالة الاجتماعية، والحرية السياسية، والرفاهية الاقتصادية ” فهذا يعني في نظره بأن “كل ديمقراطية ليست بصالحة
من هنا، أكد على ضرورة محاربة كل الأشكال الزائفة للديمقراطية، بما فيها تلك المطبقة بالمغرب التي يعتبرها تشويها ومسخا “لحقيقة الشورى الإسلامية، والديمقراطية الصحيحة” والتي تقوم على الظلم والفساد والاستبداد. وبالتالي، فقد دعا إلى محاربة الاستبداد بكل أشكاله وعد تبريره بالقول بأن الشعب غير ناضج للديمقراطية، أو التخويف من خطر ارتكاب الأخطاء في ممارسة الديمقراطية، حيث إن ذلك مردود عليه بأن الشعب الذي ناضل من أجل الحصول على الاستقلال جدير بتمتعه بنظام ديمقراطي وممارسة حقوقه السياسية
ثالثا – التقدمية الاشتراكية كخيار اقتصادي
تشكل التقدمية الاشتراكية في نظر الوزاني العنصر الثالث لهوية الحزب السياسية، والتي تختلف عن الاشتراكية الماركسية التي تقوم على “بناء مجتمع تسود فيه الدولة، وتهيمن فيه على كل شيء مما يجعل الحكم ديكتاتوريا، والاقتصاد احتكارا، والرأسمال دوليا، والفرد ضحية، والمجتمع آلة”؛ مما يؤدي إلى اختلال التوازن في المجتمع. في حين أن الاشتراكية التي نادى بها الوزاني هي تلك التي تقوم على التوازن بين الحقوق والواجبات، سواء بالنسبة للفرد أو الدولة دون التضحية بأحدهما على حساب الآخر. كما أن من مقومات هذه الاشتراكية محاربة كافة أنواع الاستغلال سواء من طرف الأجانب أو أبناء البلد، والعمل على القضاء على كل أشكال الرجعية، والإقطاعية، والوصولية، والانتهازية، والاحتكار، وسيطرة الرأسمال على الدولة في الحكم والسياسة، والعمل على تحرير الاقتصاد القومي من التبعية الاجنبية، والحد من الفوارق الاجتماعية، وتشجيع الرأسمالية الوطنية التي تخدم الصالح العام
وبالتالي، فقد لخص الوزاني هذه الاشتراكية التقدمية بأنها ليست رأسمالية ولا ماركسية، ولا شيوعية، ولا ديكتاتورية، بل هي اشتراكية متزنة، رشيدة، سليمة، تهدف إلى تحقيق العدالة الاجتماعية والاقتصادية لصالح الجميع
أما الوسيلة الفضلى لتحقيق هذه الاشتراكية التقدمية فتقوم على الانقلاب بالوسائل الشرعية وبالنضال الديمقراطي والمعارضة الشرعية لأي سياسة رسمية تقوم على الفساد والاستبداد والاستغلال
وعموما، فمن خلال قراءة لمضامين هذا الخطاب يلاحظ مدى الانسجام بين هذه المضامين ومكونات فكره السياسي التي كانت تقوم في مجملها على إرساء الحكم الديمقراطي من خلال اللجوء إلى الأساليب الشرعية من نضال ديمقراطي وممارسة المعارضة الشرعية عبر تنظيم سياسي يؤمن أعضاؤه ونشطاؤه بالتضحية من أجل خلق مجتمع جديد قائم على التوازن بين واجبات الدولة وحقوق المواطن، وترسيخ قيم العدالة الاجتماعية من خلال التقليص من الفوارق الاجتماعية، ومحاربة الفساد والاستبداد بكل مظاهره ولعل هذه المطالب السياسية هي التي ما زال المناضلون كل من موقعه يطالبون بتطبيقها
وعموما، فقد انفرد الوزاني في منظومة سياسية سادت فيها الأصولية بكل تلويناتها السلفية والماركسية والإسلامية بالمزاوجة بين التنظير السياسي من خلال ترسيخه للفكر الليبرالي ونشره بين مكونات نخب الدولة والمجتمع من خلال دعوته إلى تبني المفاهيم السياسية الحديثة في الفكر السياسي المغربي؛ كالقومية، والديمقراطية، والتعددية الحزبية، والتنظيم السياسي من خلال ممارسته للسياسة كخدمة للأمة، بعيدا عن الجري وراء المناصب والانتفاع الشخصي والارتزاق السياسي. مما جعل فكره السياسي متميزا ليس فقط بربطه المطالبة بالاستقلال بإقامة نظام سياسي ديمقراطي تتوزع فيه السلطة بين مؤسسات تمثيلية لا تطغى فيها سلطة على أخرى ويقوم على دستور غير ممنوح تضعه جمعية تأسيسية منتخبة، بل أيضا بإثارة قضايا سياسية ما زالت تناقش إلى حد الآن من ملكية دستورية، ومظاهر الفساد السياسي، والبلقنة الحزبية…، الشيء الذي يضفي على فكره السياسي راهنية خاصة
المصدر : https://m.hespress.com/histoire/488812.html